أولاً : حقوق الوالدين في القرآن( ((الكريم : (( لا تحرموني من الرد ولو بكلمه شكر
قرن تعالى وجوب التعبد له بوجوب البر بالوالدين في العديد من الآيات الكريمة ، منها قوله تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) الإسراء : 23 .
وقوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) البقرة : 83 .
وهكذا نجد أن الله تعالى يعتبر الإحسان إلى الوالدين قضية جوهرية ، فهي من الأهمية بمكان ، بحيث يبرزها - تارة - في عالم الاعتبار بصيغة القضاء : ( وَقَضَى رَبُّكَ ) الإسراء : 23 .
ويجسدها - تارة أخرى - في عالم الامتثال بصيغة الميثاق : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) البقرة : 83 .
ويعتبر التعدي على حرمتهما حراماً ، وهنا لابُدَّ من التنبيه على أن القرآن الكريم وفي العديد من آياته يؤكد على الأولاد بضرورة الإحسان إلى الآباء ، أما الآباء فلا يؤكد عليهم الاهتمام بأبنائهم إلا نادراً ، وفي حالات غير عادية ، كأن لا يقتلوا أولادهم خشية الإملاق .
فيكتفي بالتأكيد على أن الأولاد زينة ومتعة ، وموضع فتنة وإغراء للوالدين ، ولم يذكرهم إلا مقرونين بالمال ، وفي موضع التفاخر .
وبنظرة أعمق جعل الإحسان إلى الوالدين المظهر الاجتماعي للعبادة الحقة ، وكل تفكيك بين العبادة ومظهرها الاجتماعي ، بالإساءة إلى الوالدين على وجه الخصوص ، ولو بكلمة ( أُفٍّ ) ، يعني إفسادا للعبادة كما تفسد قطرة الخل العسل .
للأمِّ حَق أكبر :
منح القرآن الأم حقاً أكبر ، وذلك لما تقدمه من تضحيات أكثر ، فالأم هي التي يقع عليها وحدها عبئ الحمل والوضع والإرضاع ، وما يرافقهما من تضحيات وآلام ، حيث يبقى الطفل في بطنها مدة تسعة أشهر على الأغلب في مرحلة الحمل ، يتغذّى في بطنها من غذائها ، ويقرّ مطمئناً على حساب راحتها وصحتها .
ثم تأتي مرحلة الوضع الذي لا يعرف مقدار الألم فيه إلا الأُم ، حيث تكون حياتها - أحياناً - مهدَّدة بالخطر .
ويوصي بها على وجه الخصوص : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) لقمان : 14 .
وبذلك يؤجج القرآن وجدان الأبناء حتى لا ينسوا أو يتناسوا جهد الآباء ، وخاصة الأم وما قاسته من عناء ، ويصبوا كل اهتمامهم على الزوجات والذرية .
ثانياً : حقوق الوالدين في السنَّة النبوية :
احتلَّت مسألة الحقوق عموماً وحقوق الوالدين على وجه الخصوص مساحة كبيرة من أحاديث ووصايا النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد ربط النبي ( صلى الله عليه وآله ) بين رضا الله تعالى ورضا الوالدين ، حتى يعطي للمسألة بُعدَها العبادي .
وأكَّد ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً بأن عقوق الوالدين هي من أكبر الكبائر ، وربَط بين حب الله ومغفرته وبين حب الوالدين وطاعتهما .
فعن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : ( إنَّ رَجُلاً جاءَ إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله ، ما مِن عَملٍ قبيح إلا قدْ عملتُه ، فهل لي من توبة ؟ فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( فهَلْ مِن وَالِدَيكَ أحَدٌ حَي ؟ ) ، قال : أبي .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( فاذْهَبْ فَبِرَّه ) ، فلما ولَّى قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( لَوْ كَانَتْ أمُّه !! ) ) .
وفي التوجيه النبوي : ( مِنْ حَقِّ الوالِدِ عَلَى الوَلَدِ أن يخشع له عند الغضب ، حِرصاً على كرامة الآباء منْ أن تُهدَر ) .
وفوق ذلك فقد اعتبر التسبب في شتم الوالدين من خلال شتم الولد للآخرين كبيرة من الكبائر ، تستحق الإدانة والعقاب الأخروي .
ثم إن البر بهما لا يقتصر على حياتهما ، فيستطيع الولد المطيع أن يبرَّ بوالديه من خلال تسديد ديونهما ، أو من خلال الدعاء والاستغفار لهما ، وغير ذلك من أعمال البر .
ثم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد جسَّد هذه التوصيات على مسرح الحياة ، ففي الوقت الذي كان يحثُّ المسلمين على الهجرة ليشكِّل منهم نواة المجتمع التوحيدي الجديد في المدينة ، وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون قلائل بالآحاد ، تروي كتب السيرة : أنَّ رجلاً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : جئتُ أبايعك على الهجرة ، وتركتُ أبوي يبكيان .
فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( اِرجعْ إلَيهِمَا فَأضحِكْهُمَا كَمَا أبْكَيْتَهُمَا ) .
ثالثاً : حقوق الوالدين في مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) :
أعطى الأئمة الأطهار لتوجهات القرآن الكريم وأقوال النبي وأفعاله الفكرية والتربوية روحاً جديدة يمكن إبرازها على النحو الآتي :
أولها : تفسير ما ورد من آيات قرآنية :
تنبغي الإشارة هنا إلى أن أهل البيت ( عليهم السلام ) هم الذين أنزل القرآن في بيوتهم ، وقرنهم الرسول الأعظم به ، وغدوا بذلك قرآناً ناطقا ، ينطقون بالحق ، ويؤكِّدون على أداء الحقوق .
فقد حدَّد الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) مفهوم الإحسان الوارد بقوله تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) الإسراء : 23 .
فقال ( عليه السلام ) : ( الإحسان : أن تُحسِن صُحْبَتَهُما ، وأن لا تكلِّفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه ، وإن كانا مُسْتَغْنِيَيْن ) .
وحول قوله تعالى : ( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ) الإسراء : 23 ، قال ( عليه السلام ) : ( إنْ أضْجَرَاكَ فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ، ولا تَنْهرهُمَا إِنْ ضَرَبَاكَ ) .
وفي ضوء قوله تعالى : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) الإسراء : 24 ، يقول ( عليه السلام ) : ( لا تَمْلأ عَيْنَيكَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِمَا إِلاَّ بِرَحمَةٍ وَرِقَّة ، وَلا تَرْفَعْ صَوتَكَ فَوقَ أصْوَاتِهِمَا ، وَلا يَدَكَ فَوقَ أيْدِيهِمَا ، وَلا تقدم قُدَّامَهمَا ) .
وحول الآية الكريمة : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) لقمان : 14 ، يقول الإمام علي الرضا ( عليه السلام ) : ( إنَّ الله عزَّ وجَلَّ أمَر بالشكرِ لَهُ وللوالدين ، فمَن لَمْ يشكر وَالِدَيه لمْ يشكر الله ) .
ثانياً : استثارة الوازع الأخلاقي :
أراد الأئمة ( عليهم السلام ) أن تبقى منظومة الأخلاق في الأمة حيَّة فعالة ، انطلاقاً من حِرْصهم الدائم على سلامة المجتمع الإسلامي ، حتى لا يتردَّى أفراده في مهاوي القلق والضياع ، وعليه فقد حثّوا على التمسك بالقِيَم الأخلاقية في تعامل الأولاد مع والديهم ، بحيث تتحول إلى طبع يطبع سلوك الأبناء ، وفي هذا الصدَد يقول الإمام علي ( عليه السلام ) : ( بِرُّ الوَالِدَينِ مِنْ أكْرَمِ الطِّبَاعِ ) .
ويقول حفيده الإمام الهادي ( عليه السلام ) : ( العقُوق ثكْلُ مَنْ لَم يُثكَل ) .
ثالثاً : تحديد الحكم الشرعي :
لم يبقَ آل البيت ( عليهم السلام ) مسألة حقوق الوالدين في إطار التوجهات القرآنية أو مجرَّد استثارة الدوافع الأخلاقية ، بل حدَّدوا الحكم الشرعي لهذه المسألة الحيوية ، واعتبر الإمام علي ( عليه السلام ) بِرّ الوالدين أكبر فريضة .
ويقول الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( ثَلاث لَمْ يَجْعَل الله عَزَّ وَجَلَّ لأحدٍ فيهِنَّ رُخصة : أدَاء الأمَانة إلى البرِّ والفَاجِر ، والوفَاءِ بالعَهْد للبرِّ والفَاجِر ، وبِرّ الوَالِدَين بِريْنَ كَانَا أو فَاجِرَين ) .
والجدير بالذكر أن الإسلام لم يربط حقوق الوالدين بقضية الدين ، وضرورة كونهما مسلمين ، بل أوجب رِعاية حُقوقهم بمعزَلٍ عن ذلك .
فيقول الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( بِرّ الوالِدَين وَاجِبٌ وإن كَانَا مُشرِكَين ، ولا طَاعَة لهما في معصية الخالق ) .
ولم يكتَفِ الإمام الرضا ( عليه السلام ) بِتبْيَان الحُكم الشرعي ، بل كَشَف عن الحكمة من وراء هذا التحريم بقوله : ( حَرَّم الله عُقوق الوَالِدين لمَا فِيه مِنَ الخُروجِ مِن التَّوفِيقِ لِطَاعَةِ الله عَزَّ وجَلَّ ، والتوقيرِ للوَالِدَينِ ، وتَجَنُّب كُفر النِّعمَة ، وإبْطَال الشُّكْرِ ، ومَا يَدعُو مِن ذلكَ إلى قِلَّة النَّسل وانقِطَاعِه ، لِمَا فِي العقُوقِ من قِلَّة توقير الوالدين ، والعرفان بحقهما ، وقطع الأرحام ، والزُّهد من الوالدين في الولد ، وتَرك التربية بِعِلَّة ترك الولد برهُمَا ) .