إنه منهج وثقافة الأذي والإيذاء.. أشد الإيلام أن يصبح كل شيء في أمتي عاديا لا يثير الاهتمام ولا يغيظ ولا يسر.. ولست أدري إلي أي فصيلة تنتمي الشعوب التي لا يسرها شيء ولا يغيظها ويحزنها شيء.. كل من حولك وما حولك في هذه الأمة يعبئك احساسا كاليقين بأن قولك عبث وسكوتك رفث.. وقلمك فسوق وعصيان.. وكل جانب تنام عليه لا يريحك.. وتخبط رأسك في أي حائط يعجبك.. وتركب أعلي ما في خيلك وتشد حيلك حتي ينقطع..
* * *
استفزاز الشعوب العربية لم يعد سرا.. لم يعد ضمناً.. أصبح جهاراً نهاراً وعلناً.. لكن الشعوب التي نسيت العصيان وصارت من الخصيان لم تعد قابلة للاستفزاز.. لا يثيرها شيء.. لا تهيج ولا ترغو ولا تثغو ولا تزبد.. تستغضب فلا تغضب.. تستثار فلا تثور.. وترضي بأن يقال عنها إنها شعوب طيبة "جامدة" صبورة لديها قوة تحمل وجلد ومعدتها تهضم الزلط والسلع الفاسدة.. ومن يهن الله فماله من مكرم.. والذين نسوا الله أنساهم أنفسهم وسلط الله شرارنا علي خيارنا ويدعو خيارنا فلا يستجاب لهم.. والفتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة.. بل تصيب أيضا المظلومين الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف والتوالف والفوارغ.. وسكتوا وأصبحوا دراويش ومجاذيب في الحضرة يرددون خلف شيخ الطريقة الخيارية الاستراتيجية العربية: "حي.. حي".. ومن هان يسهل الهوان عليه.
إنني احترم إسرائيل.. والحق انها دائما عند حسن ظني.. لم تخيب أملي فيها أبدا.. ولم تجعلني أخسر الرهان الذي أمضي فيه مطمئنا وأقسم غير حانث بأن نجوم السماء أقرب إلينا من السلام مع إسرائيل.. إسرائيل ليست بلهاء حتي تسالم قوما لا طاقة لهم بحرب ولا طاقة لهم بسلام.. إسرائيل ليست بلهاء حتي تنتحر بالسلام والتسوية كما انتحر العرب بأكل الخيار المسموم.. إسرائيل ليست مجبرة علي أن تعطي ما لا يمكن للعرب انتزاعه منها.. إسرائيل لن تعطي طوعا ما لا يمكن أخذه منها كرها.. وتنفيذ خارطة الطريق إلي جهنم أقرب وأسهل مائة مرة من تنفيذ خارطة طريق إلي دولة فلسطينية عاصمتها القدس.
إسرائيل تموت بالسلام وتعيش علي الحرب.. العرب سيفقدون قميص عثمان إذا حدثت التسوية ولن يجدوا ما يزايدون عليه.. وإسرائيل ستفقد معني وجودها وهدف بقائها إذا سالمت واعطت الأرض مقابل السلام.. إسرائيل ليست بلهاء لتعطي الأرض مقابل موتها وفنائها.. إسرائيل تخرجنا من أزمة لتسلمنا إلي أزمة أخري.. ونحن الآن نحارب بعضنا بالنيابة عنها .. نحن نعجل إليها لترضي.. ولن ترضي عنا حتي نتبع ملتها.. وقد اتبع كثيرون ملتها وتصهينوا لكنها لا تريد أن ترضي.. إسرائيل أصبحت أرض الأحلام والجنة الموعودة التي يموت من أجلها أي عربي وهو يتسلل عبر الحدود.. وحدث هذا بلا سلام ولا خيار ولا تسوية ولا دولة فلسطينية ولا يحزنون.. إسرائيل تحصل من العرب علي ما تريد مجانا وبلا مقابل.. هي تأخذ السلام بلا مقابل.. والخيار العربي بلا مقابل.. والغاز بلا مقابل.. والأحضان الدافئة بلا مقابل.. فلماذا توجع دماغها وتتفاوض وتسالم وتتوصل إلي تسوية.. العرب بالنسبة لإسرائيل "زي قلتهم.. وهي في كل حين تبلهم وتدلق ميتهم".. علي إيه بقي السلام والخوتة؟
* * *
وأين هي الشعوب العربية التي يمكن أن تحترم إسرائيل وأمريكا إرادتها وكلمتها؟ كيف يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه؟ كيف نطلب من إسرائيل وأمريكا احترامنا
الشعب العربي "لما يطاطي.. يعلي الواطي"..
احتقرونا أولا ثم احتكرونا واحتكروا أقواتنا.. ومن لم يصبر علي بلواهم ويرض بقضاهم فليذهب من تحت سماهم وليلتمس له ربا سواهم.. هم عن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ومن تحتنا.. البلاد بلادهم.. والأمة أمتهم.. والمحيط محيطهم والخليج خليجهم والنيل نيلهم "حتي اللي موش عاجبه" لن يشرب من البحر إلا بأمرهم.. لأنهم احتكروا البر والبحر والنهر واحتكروا توكيل القهر.. ويعلمون السر والجهر.. وهم أساتذة البرود..
* * *
وينتهي السيناريو في كل مرة بهزيمتنا في مائة معركة للتل الكبير ونفينا من أوطاننا.. ولكنه هذه المرة ليس نفي أجسادنا.. بل نفي أرواحنا وقلوبنا وعقولنا من أوطاننا وأمتنا.. وهو أخطر أنواع النفي.. نفي إيماننا وانتمائنا.. نفي حبنا للأوطان والأمة.. نفي ولائنا.. نفي آمالنا وطموحاتنا.. نفي حياتنا حتي يصبح الموت في أعالي البحار أرحم منها..
وقد كفرنا بالأوطان وبالأمة وقضاياها.. وأصبحنا بفضل العز والوز نقول: "نار إسرائيل ولا جنة الأمة العربية.. والوطن هو الذي أشعر فيه بآدميتي.. بالحد الأدني من الكرامة.. بالقدرة علي التنفس الحر.. وهذا ليس في أي وطن عربي.. ربما يكون في إسرائيل أو أمريكا أو إيطاليا أو أي مزبلة في العالم.. لكنه ليس في أي وطن عربي.. وهم لا يحولون بيننا وبين ألسنتنا وأقلامنا مادمنا لا نقدم ولا نؤخر.. ومادامت الشعوب مسحوبة من بطونها وفروجها.. لا خوف ولا خطر من "الجعجاعين".. وبمرور الوقت يصبح الصراخ عاديا.. والأسعار تشتعل والكلاب تعوي.. وكل شئ يبدأ صغيرا ويكبر إلا الحزن العربي والهم العربي والمعارضة والردح والصراخ العربي.. فهذا كله يبدأ كبيرا ثم يصغر ويضمر ويتلاشي.. الله.. الله.. كلامك جميل.. أسلوبك رائع.. حروفك صادقة وناصعة.. مقالاتك جريئة.. هذا في البداية ومع الوقت يألف الناس ويعتادون.. والعربي حيوان يعتاد كل شئ.. يعتاد اغتصاب نساء العراق.. يعتاد نزيف الدم بين فتح وحماس علي الكراسي الوهمية التي ألهتهم بها إسرائيل.. يعتاد بقاء لبنان بلا رئيس إلي الأبد.. يعتاد اختفاء الصومال من الخريطة.. يعتاد الحفر تحت السودان وفي أطرافه حتي يسقط..
***
والعربي لا يستفزه أحد ولا يثيره شئ.. ولم يعد يصنع أحداثا.. أصبح يستهلك أحداث وأخبار الآخرين..
لا جديد.. لا جديد فعلاً .. واللي نبات فيه نصبح فيه.. لا جديد سوي ان سعر اليوم أعلي من سعر الأمس لكل السلع.. إلا الإنسان العربي فإن سعره اليوم أقل من الأمس.. لا جديد سوي الحديد والعمر المديد.. لا جديد سوي بيت أمير الشعراء أحمد شوقي الذي يشخص بدقة حالة الإنسان العربي:
ولو خلقت قلوب من حديد
لما حملت كما حمل العذاب
لا جديد ولن يكون هناك جديد.. إلا المزيد من الضرب علي القفا والاستهزاء برد فعل المواطن العربي وهوانه وانسحاقه ويقال له كلما ألهبوا ظهره بسياط الغلاء والبلاء والخيار والهوان: "شد حيلك واركب أعلي ما في خيلك"!!
نظرة
أوتي العربي علي مر تاريخه لغة ثرية تجعله قادرا علي قول الشئ ونقيضه بنفس قوة الحجة وبنفس البلاغة والبيان اللذين يثيران الاعجاب.. والعربي كان دائما ومازال صيادا بلسانه أو بقلمه.. يصطاد النساء أو يصطاد الفلوس أو يصطاد المناصب أو يصطاد النجومية والبطولة.. والمتلقي العربي يسقط دائما من خلال أذنيه أو عينيه في براثن ما يسمع وما يقرأ والمرسل والمتلقي لا يعنيهما الفعل والقضية وإنما يعنيهما القول.. وروي أن أعرابيا مدح سعيد بن سلم الباهلي أحد ولاة الخلفاء الأمويين أملا في نواله وعطائه فقال:
أيا ساريا بالليل لا تخش ضلة
سعيد بن سلم ضوء كل بلاد
لنا سيد أربي علي كل سيد
جواد حثا في وجه كل جواد
ولكن سعيد بن سلم خيب ظن الأعرابي ولم يأمر له بمنحة أو صلة أو علاوة أو ترقية ولم يطعم فمه لتستحي عينه.. فقال الأعرابي بعد أيام قليلة
لكل أخي مدح ثواب يعده
وليس لمدح الباهلي ثواب
مدحت ابن سلم والمديح مهزة
فكان كصفوان عليه تراب