[size=24]يقول السلطان العادل داعيا ربه: اللهم ارحم رعيتي بي كما رحمتني بهم.. اللهم اكرمهم بي كما أكرمتني بهم.. اللهم ارفعهم بي كما رفعتني بهم.. اللهم اجعلني أقدمهم واجعلهم يتبعونني إلي الجنة.. اللهم اغفر لهم بظلمي إذا ظلمت واغفر لي بسخطهم إذا سخطوا عليَّ.. واجعلني لهم ولا تجعلني عليهم.. وملكني قلوبهم ولا تملكني رقابهم.. اللهم اغنني بالفقر إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك.
وروي أن الله تعالي أنزل علي إبراهيم عليه السلام عشرين صحيفة.. وهي الصحف التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في آخر سورة الأعلي: "إن هذا لفي الصحف الأولي . صحف إبراهيم وموسي" وقيل ان صحف إبراهيم كانت أمثالا وعبرا وتسبيحا وتمجيدا وتهليلا وورد في إحداها: "أيها الملك المسلط المغرور المبتلي.. إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها علي بعض ولتبني المدائن والحصون ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم.. فإني لا أردها وإن كانت من كافر".
وروي أن قوم أحد أنبياء بني إسرائيل فشت فيهم المعاصي فأوحي الله إلي نبيهم وقيل إنه أرمياء: قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم قلوبا ولا يفقهون.. وأعينا ولا يبصرون وآذانا ولا يسمعون.. انكر أحبارهم حقي.. وعبد قراؤهم غيري.. وكذب ولاتهم وجار سلاطينهم.. خزنوا المكر في قلوبهم.. وعودوا الكذب ألسنتهم.. وإني لأهيجن عليهم جنودا لا يعرفون وجوههم ولا يرحمون بكاءهم.. ولأبعثن فيهم ملوكا جبابرة قساة يعيدون العمران خرابا ويتركون القري وحشة.. ولأبدلن رجالهم بالعز الذل وبالنعمة العبودية ولأبدلن نساءهم بالطيب التراب.. ثم لآمرن السماء فتكون طبقا من حديد والأرض فتكون سبيكة من نحاس فإن أمطرت السماء وأنبتت الأرض شيئا في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم.. ثم أحبس المطر في زمن الزرع وأرسله في زمن الحصاد فإن زرعوا في خلال ذلك شيئا سلطت عليه الآفة.. فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة.. فإن دعوني لم أجبهم.. وإن سألوا لم أعطهم.. وإن بكوا لم أرحمهم.. وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم.. فقد عدلوا بي "أوعدلوا عني" ووثقوا بغيري. وأنا أرد عليهم ما توسلوا به إليَّ.. وأكلهم إلي من توكلوا عليهم.. ومن وكلته إلي غيري فلينتظر الفتنة والبلاء.. قل لهم: انهم يتقربون إليَّ بذبح الغنم والبقر وليس ينالني اللحم ولا آكله.. ولا يتقربون إليَّ بالتقوي والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها.. ويشيدون لي البيوت ويزوقون لي المساجد.. وأي حاجة بي إلي تشييد البيوت ولست أسكنها وإلي تزويق المساجد ولست أدخلها؟ .. إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبح.
وروي أن نبيا من أنبياء الله قال لقومه: أتدرون ما آية حب الله لكم وآية سخطه عليكم؟ قالوا: دلنا علي ذلك أيها النبي. قال: إذا أحب الله قوما جعل أبصارهم في قلوبهم.. وإذا غضب علي قوم جعل قلوبهم في أبصارهم.. والعاقل من كان بصره في قلبه والأحمق المجنون من كان عقله في عينيه وأذنيه.. وجاء في بعض الكتب: "عبدي: مازال ملك كريم قد صعد إليَّ منك بعمل قبيح.. أتقرب إليك بالنعم.. وتتمقت إليَّ بالمعاصي.. خيري إليك نازل وشرك إليَّ صاعد".
ويل لنا من ذلك كله فقد بلغنا هذا الدرك الأسفل وتلك المرتبة من غضب الله عز وجل.. سلط الله شرارنا علي خيارنا ويدعو خيارنا فلا يستجاب لهم.. الشر مسموع متبع والخير يصادف آذانا صماء وأعينا عمياء.. نتدين لغير العبادة.. ونختل الدنيا بالآخرة. أي نطلب الدنيا بعمل الآخرة.. وورد أن من أشراط الساعة أن تعطل السيوف عن الجهاد وأن تختل الدنيا بالدين.. أي أن نطلب الدنيا بالدين.. أي نتاجر بالدين لنربح الدنيا.. نربح السلطة والحصانة.. نربح المال بالاحتكار مقابل موائد الشيطان التي نسميها موائد الرحمن.. وأن نتصدق من سرقة أموال المساكين ونبني مساجد الضرار وكنائس الضرار.. ونلبس مسوك أي جلود الضأن علي قلوب الذئاب.. ألسنتنا أحلي من العسل وأنفسنا أمر من الصبر.. نخادع الله وما نخدع إلا أنفسنا وما نشعر.
وجاء في بعض الكتب: أبي يفترون؟ أم إياي يخادعون؟ لأبعثن عليهم فتنة تجعل الحليم حيران.. وها نحن في الفتنة التي جعلت حليمنا حيران.. وعلم العرب عند جهلائهم.. ومال العرب عند بخلائهم.. .. وشرف العرب عند من لا نسب لهم ولا أصل ولا فصل ولا جذور.. ورغمت أنوف أهل العلم والحلم والحكمة والمنبت الحسن.. سفل الأعلون وعلا الأسافل وتطاول الحفاة العراة رعاة الشاة في البنيان وولدت الأمة ربتها.. فمن أشراط الساعة عندي أن "الأمة فالت عيارها.. باعت شرفها بخيارها!!".
* * *
لم نعد قادرين حتي علي البكاء عملاً بقول حكيم العرب الذي لم يعد له وجود: لا يكون البكاء إلا من فضل فإذا اشتد الحزن وأخذت الكارثة بأقطارنا وأحاط بنا سرادقها ذهب البكاء وأنشد:
فلئن بكيناه يحق لنا .. ولئن تركنا ذاك للصبر
فلمثله جرت العيون دما .. ولمثله جمدت فلم تجرِ
وقد سألني سائل يوما: لماذا صارت الدراما التليفزيونية والأفلام السينمائية مملة..؟ هل نضب معين الإبداع؟.. ولماذا اختفت النكات وصارت سخيفة ولم تعد مضحكة؟ هل فقدنا خفة الدم؟ قلت: ليس شيء من هذا صحيحا. ولكن الحق أقول لكم.. إن واقعنا العربي أصبح أكثر ابداعا من الدراما وكتاب السيناريو.. إن واقعنا العربي ألجم خيال المبدعين وصارت الدراما مهما كانت فجة ووقحة وسافرة وعارية وسافلة "لعب عيال" مقارنة بالواقع.. ولم يعد للنكتة وجود لأن الواقع العربي صار نكتة متمددة من المحيط إلي الخليج وأصبح العرب نصف مليار جحا لكل منهم نوادره وحماقاته التي تتواري أمامها نوادر وحماقات جحا.. لقد قتل الواقع العربي لدينا جينات الدهشة وأفسد كل مفاجآت الدراما والنكات.. ولا يشد المرء إلي شيء ما سوي اندهاشه وصدمته وشعوره بالمفاجأة وهذا كله لم يعد موجودا لدي العرب.. لأن واقعنا مبدع في أساليب التردي وعبقري في سيناريوهات الذل والهوان والخيانة والانبطاح.. لم يعد هناك أمر عجيب.. وأشد ما أصابنا من بلاء هو أننا لم نعد نتعجب من العجب ولم نعد نندهش من المدهش.. ولم نعد نضحك ولم نعد نبكي.. بل اننا أصبحنا مجانين بشكل رسمي وشعبي.. ويدلك علي ذلك صديقي **** سعودي.. وهو مصري الهوية والهوي هو "واللي خلفوه" ولديه جواز سفر مصري ورقم قومي مصري وذهب إلي الجوازات لتجديد جواز سفره فطلبوا منه ما يثبت جنسيته المصرية. فلطم الرجل خده وشق جيبه وتخلق بأخلاق الجاهلية.. وساعتها فقط عرفوا أنه مصري واستخرجوا له جواز السفر.. ولست أدري من المجنون هنا.. من المجنون منا؟.. أذلك الذي أنكر الدم واللحم وطلب الأوراق؟ أم ذلك الذي "طلع من هدومه.. وقلع بلبوص.." ولطم وولول وقال "يا خرابي يا لهوتي" ليثبت أنه مصري؟.. ربما الاثنان عاقلان وأنا المجنون.. ربما المجنون هو أو موظف الحكومة.. و هذا صديق خليجي ذهب إلي جهة حكومية لإنهاء أوراق ما. أو معاملة كما يسمونها هناك.. فسأله الموظف عن اسمه فقال: أنا مطر.. فهرول الموظف إلي الشارع وعاد ليقول لصديقي: كيف تكون "مطر" والشمس ساطعة والسماء صافية؟ هذا تزوير في أوراق رسمية.. ولم يضحك مطر لأنها لم تكن نكتة.. ولكنه جاري الرجل في إبداعه أو جنونه وقال له: دعنا نؤدي معا صلاة استسقاء لأثبت لك أنني مطر.. فقال الرجل: هذا هو الحل الأمثل لتسقط عنك تهمة التزوير.
* * *
نعم اننا جميعا نشرب من البحر ونرمي صناديق الكبت والقهر في النهر ثم نعود لنشرب القهر من النهر "من دقنه وافتل له.. وحاوريني ياطيطة.. في الأزاريطة".. لا أكاد ألمح عقلاء في هذه الأمة أو ربما أنا المجنون وحدي.. الابداع والعبقرية في أمتي أن تكون مجنونا.. والبطولة والنضال أن تكون مجنونا.. واستعرضوا معي الأوضاع المقلوبة والبشر المقلوبين ولو كانت لديكم ذرة من عقل لأيقنتم أنكم في أمة مجنونة.. "فلت عيارها.. وغلب حمارها.. وبالت علي نارها فأطفأتها".. فلت عيارها.. ونضج خيارها".. والأمة التي يفلت عيارها ويكثر خيارها وتبول علي نارها وترضي بعارها وتسكت علي "ثارها".. أمة مجنونة حمقاء.
يا أصدقائي : لا تناقض فقد روي لي حديثا والعهدة علي من بلغ وهو أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال يوما لسلمان الفارسي رضي الله عنه: "لا تبغضني يا سلمان فتدخل ببغضي النار. فقال سلمان: كيف أبغضك وأنت رسول الله؟.. فقال عليه الصلاة والسلام: لا تبغض العرب فتبغضني فتدخل ببغضي النار".. لم يكن أبوبكر الصديق رضي الله عنه يبغض العرب حين قال: إن العرب قوم فيهم غِرة أي فيهم غفلة.. ولم يكن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يكره العرب حين قال: يا أهل العراق.. يا أهل الشقاق والنفاق.. هذا كله وغيره ليس بغضا.. إنما هؤلاء منذرون لقوم يحبونهم.. إنهم يقسون علي من يرحمون.. أما البغض فهو أن تزين لمن تبغضه سوء عمله ليراه حسنا ويقع في شر أعماله.. كما يفعل الشيطان مع الإنسان إذ يقول له: اكفر.. فلما كفر قال: إني بريء منك..
الله تعالي لا يحاسب الناس إلا علي الوسائل.. لأننا مختارون في الوسائل ومخيرون في الطرق.. أما الغايات فإنها جبرية.. وقد نسلك الوسائل التي نريد إلي الغايات التي نريد.. ولكننا نصل إلي غايات أخري أرادها الله.. والله لا يحاسبنا علي الثراء ولا يعاقبنا علي الغني ولكنه يعاقبنا علي كيفية بلوغه والوصول إليه.. فالمال حرام أو حلال بوسيلة اكتسابه لا بذاته.. والدين هو الدين.. والتدين هو التدين لكنه قد يقود إلي النار لا إلي الجنة عندما يكون عدة نصب ووسيلة لكسب الدنيا لا لكسب الآخرة.
وقد بحثت عن معني الجنون لغة. فعرفت أن الجنون هو الاختفاء.. وسميت الجن جنا لاختفائها وسمي المجنون مجنونا لاختفاء عقله.. والصوم جُنّة -أي- وقاية وستر من الخطايا.. وجن الليل إذ أخفي النهار.. والجنة هي المكان الذي يخفي الشجر الكثيف أرضه ومعالمه.. وجنان المرء بفتح الجيم قلبه أو أعماقه المختفية التي يسترها ويخفيها الجسد.
* * *
والمجنون اصطلاحا هو الذي أصبح سجين ذاته لا يري خارجها شيئا.. لذلك لا يعنيه ما يقول الناس عنه ولكن يعنيه ما يرضيه هو.. يحكمه مزاجه وهواه ولا تحكمه قواعد ومعايير ومباديء وتوازنات.. الصواب ما يراه هو والخطأ ما يراه هو. والمجنون ليست له مرجعية وليس لانفلات عياره سقف وهذا بالضبط حال العربي الآن.. فهو يعرض نفسه وحريمه في سوق النخاسة ليثبت أنه متحضر ومستنير.. وكل نساء العرب الآن خضراوات دمن.. وخضراء الدمن التي حذر الرسول صلي الله عليه وسلم منها هي المرأة الحسناء في المنبت السوء.. والأمة الآن كلها تربة ملوثة وقذرة وهي منبت سوء لرجالها ونسائها.. لقد علمنا الغرب "الشحاتة" فسبقناه علي الأبواب.. لأن الأمة الآن تتسول وتأكل بثدييها..
هذه ليست كراهية للعرب وإذا كانت تلك كراهية فإن معني ذلك أنني كرهت نفسي.. وأنا بالفعل أوشك أن أكره نفسي.. ومن العبث أن تدعي العقل وسط مجانين.. وبالتأكيد ستكون أنت المجنون مادامت الأمة أجمعت علي الجنون.. وستكون أنت علي باطل حين تدعو إلي الحق مادامت الأمة أجمعت علي الباطل.. ستكون أنت المريض الوحيد ما دامت الأمة أجمعت علي أن وباءها ومرضها العضال صحة وعافية.. إننا نصرخ ونعي أنه لا جدوي ولكننا نريد أن نبريء ساحتنا أمام الله.. نريد أن نأتي الله بقلب سليم ليس فيه غيره سبحانه وتعالي.. نريد أن ننذر أمة أفلت عيارها وكثر خيارها.. وغلب حمارها.. وبالت علي نارها.. وافتخرت بعارها.. وتنازلت عن "ثارها" وتشرب القهر من النهر!!
* نظرة
كل من يري الأمور طبيعية وعادية في هذه الأمة هو بالتأكيد غير طبيعي.. ونحن جميعا لا نري شيئا يذكر.. لا نري ما يدعو إلي الدهشة لذلك نحن جميعا غير طبيعيين.. نحن جميعا مختلون بعد أن أصبحنا محتلين.. نحن نسير إلي الهاوية ضاحكين مستبشرين.. وويل لنا مما بلغنا من خلل.. نُعطيَ فلا نشكر.. ونُمنع فلا نعذر.. نخشي الخلق في الرب.. ولا نخشي الرب في الخلق.. نعوذ بالله ممن فوقنا.. ولا نريد أن يعيذ الله منا من تحتنا.. نبصر العورة من غيرنا.. ونعمي عنها ونغفلها من أنفسنا.. إن سألنا ألحفنا.. وإن سُئلنا سوّفنا.. وإن حدثنا أخلفنا وإن وعظنا كلحنا.. وإن استنطقنا في الخير برمنا وقلنا: ليس لنا علم.. وإن استنطقنا في الشر أفصحنا وخفنا العي وتكلمنا بغي.. إن عادينا "شرشحنا".. وإن عاتبنا "ردحنا".. نفسد ونقول أصلحنا.. "وابقوا قابلوني لو فلحنا"!!!