موسى عليه السلام وآية فلق البحر
أول الآيات الفاصلة بين نهاية عهد فرعون، وبداية عهد بني إسرائيل، هي انفلاق البحر؛
ذكرنا في الحلقة الثانية سبب تسمية بحر النيل باليم، وأن النيل عندما يمتلئ بالطمي والطين يسمى باليم، وقد ذكر ذلك في ثلاث مواضع في قصة موسى عليه السلام، عند ولادته، وكان الوقت وقت طوفان وفيضان، وفي الحادثة التي غرق فيها فرعون وجنده، ونحن بصدد الحديث عنها، وعند حرق عجل بني إسرائيل، ونسفه في اليم؛ حتى يطمس موضع إلقاء الذهب الذي صنع منه العجل بالطين فلا يُهتدى لمكانه.
لما كان فرعون يرفض خروج بني إسرائيل من أرضه باعتبارهم عبيده، وضرر خروجهم على الأعمال التي سيتركونها، والخشية على نفسه من تكاثرهم وتكوين قوة لهم بعيدًا عنه؛ فإن أي تجمع لهم للخروج أمام عينه، أو يعلم به قبل الخروج، سيمنعه ويقضي عليهم ..... أوحى سبحانه وتعالى لموسى أن يسر بهم في آخر الليل، حتى يأخذوا فرصة في الابتعاد، وكان فيهم النساء والأطفال، قبل أن يلحق بهم فرعون وجنوده، وليقض الله أمرًا كان مفعولا.
قال تعالى: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) الدخان.
وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) طه.
وقال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) الشعراء.
وقال تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) البقرة.
هذه أربع مواضع من القرآن الكريم تذكر فيها هذه القصة؛
ففي آية الدخان؛ يقول تعالى: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا)، والرهوة هي المكان المنخفض وما حوله أعلى منه فإذا نزل المطر عليه انحصر فيه، ولم يجد له مخرجًا منه، والله تعالى يريد من فرعون أن يدخل هو وجنده فيه، فلا يجدون لهم منه مخرجًا، ليكون فيه هلاكهم بالغرق.
وأما آية طه فجاء فيها: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا)، فالطريق في البحر يكون على وجهه، لكن هذا الطريق في البحر يبسًا، ويبس البحر إما يراد به يبس الطريق في قاعه بذهاب مائه وجفافه، وإما يراد به ضمور مائه ورقتها بقلة عمقها، لأن الشيء اليابس يخف بذهاب رطوبته، ويضمر، والحب إذا يبس ضمر، بجانب ذهاب أكثر مائه، والأيبسان: ما لا لحم عليهما من عظم الساقين، أي عليهما جلد غير سميك، فيتمكنوا في أي الحالين من قطع البحر مشيًا بدل السباحة، لأن فيهم الصغير والمرأة ومن لا يحسن السباحة، لكن الضمور يكون له مثيل أيام الجفاف وانخفاض مستوى مائه، في بعض أماكنه دون غيرها، وخاصة الصخرية الصلبة، مما يخدع فرعون وجنوده لينزلوا فيه ليصيبهم ما أصابهم، وإن كانت الأرض قد جفت على الرأي الذي اجتمع عليه أهل التفسير فإن الطاعة العمياء لفرعون وعمى القلب والبصيرة الذي هم عليه لن يجعلهم يدركوا أن هذه معجزة، وأن فيها استدراجًا لهم لمكان هلاكهم.
أما آية الشعراء فجاء فيها الحديث عن فلق البحر؛ (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)
انفلاق الشيء غير قطعه وهو انفتاح أعلاه أو طرفة العلوي، وارتباط أسفله أو طرفه السفلي فكان كل فرق أي الجنب الذي ابتعد عن الجنب الآخر، كالطود العظيم، أي كالجبل العظيم، فمن نظر إلى الماء من الأعلى أي من البر فيراه دون الأرض، ومن نظر إلى الماء من قاعه من الطريق اليبس رآه كالجبل العظيم؛ ويستدل على عظمة الجبل بالنظر إلى جانب الجبل وارتفاعه؛ ولأنالبحر إنما سمي باسمه لأنه شق مجراه عميقًا وأصبح لا يقطع إلا بمركب أو من على جسر يبنى عليه ... ولم يأت في الآيات أنه كان أكثر من فلق وأنهم كانوا يرون بعضهم، ويتحدثون مع بعضهم وكأنهم آمنون في رحلة نزهة استجمامية ... ومن يرد قياس انفجار اثنتا عشر عينًا من الحجر لاثنتي عشرة قبيلة منهم، فجعل اثنا عشر طريقًا في البحر كذلك؛ فإن أخذ الماء من العين مع وجود العدد الكثير، يحتاج إلى زمن طويل، ورفع الازدحام على الماء مطلوب، أما في طريق النجاة فكانت العجلة تفرض نفسها عليهم، لئلا يدركهم فرعون بجنوده، وكان عددهم ليس بالكثرة التي توردها الإسرائيليات بأنهم مئات الآلاف، فأربع قرون وهي المدة المقدرة لوجود بني إسرائيل في مصر، وقتل أولادهم في عقود عديدة.. لا يجعلهم يصلون إلى هذا العدد الخيالي.
أما آية البقرة، فجاء فيها مشاهدة الغرق؛ (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)، فقد شاهد بنو إسرائيل غرق آل فرعون، ومن قبلها قال تعالى قبل انفلاق البحر: (فلما تراءا الفريقان) وقوله تعالى: (وأزلفنا ثم الآخرين) في الآيات التي مرت.
فهل كان هذا البحر هو النيل أم خليج السويس؟
شواهد الآيات يدل على أنه بحر النيل وذلك للأسباب التالية:
- أن الفراعنة كانوا يسكنون غرب النيل وأهرامهم تدل على ذلك، ومن أراد الشرق اعترض طريقه بحر النيل، (فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ).
- أن فرعون استعبد بني إسرائيل، وعبيده يجعلهم من حوله لا يبعدون عنه.
- أنه تسمية البحر الذي ألقي فيه موسى عليه السلام وهو طفل رضيع، والبحر الذي غرق فيه آل فرعون باليم، وما زال اليم يطلق على النيل.
- أن اليم حمل التابوت الذي فيه موسى عليه السلام إلى مكان فرعون وأهله مما يدل على قربه من مسكن آل موسى عليه السلام.
- أن أم موسى عليه السلام أرسلت في الصباح أخته للبحث عنه، والأنثى لا ترسل إلى أماكن بعيدة؛ فبصرت به مع جماعة فرعون، مما يدل أنهم كانوا يسكنون في الجانب الذي يسكن فيه فرعون.
- أن اجتماع الملأ بعد قتل موسى لرجل منهم كان في أقصى المدينة التي حدث فيها القتل، وكان يسكنها أيضًا بنو إسرائيل، مما يدل على أنهم في جانب واحد من النيل.
- أنهم خرجوا آخر الليل ولحق بهم فرعون بجنوده في الصباح فلم يستغرق وقتًا طويلا؛ لأن مسير الجند أسرع من مسير القوم وفيهم الصغير والكبير، ولو أنهم ذهبوا إلى خليج السويس لاحتاج الذهاب إلى أيام مع وجود الأطفال والنساء.
- أن من أراد أن يتجه شرقًا فلا بد له من قطع بحر النيل، أما بعد ذلك فقد يتجنب خليج السويس، ويمر من البر الذي بين الخليج والبحر المتوسط دون أن يحبسه بحر، ومن نفس طريق قوافل الشام إلى مصر... فلماذا هذا الخلط في الفهم فيهمل معاناة قطع النيل، وتجعل المعاناة في قطع خليج السويس، وبجانبه بر بلا ماء... والله تعالى أعلم.